سورة المدثر - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المدثر)


        


{يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)}.
التفسير:
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ.....}.
هذه هى الوصايا التي يوصى بها ربّ السماء رسول اللّه، عند أول خطوة يخطوها برسالته إلى الناس.
إنه مدعوّ إلى أن يقوم بكل قواه، ليلقى الناس منذرا، غير ملتفت إلى عناد المعاندين، ولا متهيب كبر المتكبرين.. فاللّه- سبحانه- الذي يدعو الناس باسمه، هو أكبر من كل كبير.. فليذكر هذا دائما، فإنه إذا ذكر كبرياء اللّه، تضاءلت أمام عينيه كبرياء كل كبير.. وأن ينفض عن ثيابه غبار الدّعة والراحة، وأن يطهرها من غبار الزمن الذي عاشه بها قبل النبوة.. إنه منذ اليوم يلبس.
ثياب النبوة، إنها ثياب الجهاد، في سبيل اللّه، ولبوس الحرب والقتال لأعداء اللّه.. وإنّ من شأن المحارب إذا أخذ لبوس حربه أن ينظر فيه، وأن يصلح منه ما يحتاج إلى إصلاح، حتى يكون صالحا للعمل، دفاعا أو هجوما.. وهذا هو تطهير الثياب.
ومما ينبغى أن يأخذ به النبي نفسه في ثياب النبوة، أن يهجز الرجز، وهو كل ما يمسّ طهارة هذا الثوب، سواء أكان ذلك ناجما من الاحتكاك بالحياة، والمجادلة مع المشركين، أو كان ذلك مما يعرض النفس من ضجر، وقلق ومعاناة، من تلقاء هذا العبء لذى تنوء بحمله الجبال.. وهذا هو هجر الرجز والفاءات في قوله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} يرى كثير من النجاة وتابعهم في هذا كثير من المفسرين، أن هذه الفاءات زائدة.
ونحن على رأينا من أنه ليس هناك حرف زائد في كتاب اللّه الكريم، وأن كل حرف أو كلمة، لها دلالتها التي لا يتم المعنى المراد في القرآن إلا بها.
وهذه الفاءات، هى من نوع الفاء في قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} فالفاء في قوله تعالى: {فَأَنْذِرْ} واقعة في جواب الأمر.
وكذلك الفاءات في قوله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} هى واقعة في جواب أمر مقدر، معطوف على قوله تعالى في أول السورة: {قم}.
وعلى هذا يكون المعنى في ابتدائه على هذا الوجه:
يا أيها المدثر قم فأنذر الناس، وقم فكبر ربك، وقم فطهر ثيابك، وقم فاهجر الرجز.
ثم للاهتمام بالمفعول به، وقصر مر فعل الفاعل عليه، قدم هذا المفعول على الفعل، في قوله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} وحذف فعل الأمر {قم} المكرر في الآيات الثلاث، اكتفاء بتقديره وراء حرف العطف الواو الذي يأخذ نصيبه معنى لا لفظا من الفعل {قم} في قوله تعالى: {قم فأنذر}.
وفى الحق أن هذا التخريج النحوي لا ينبغى أن ندخل به على آيات اللّه، فذلك مما لا يتفق ومقام الإعجاز القرآنى، الذي يزرى بقدره، أن يوزن بميزان الكلام البشرى، الذي يخضع الضرورات، ويقبل الخطأ والانحراف.. تماما كما يزرى بقدر الذهب أن يوزن بميزان الحصى، إن كان الحصى ميزان.
وحسبنا في هذا المقام أن نقف بين يدى مثل هذه الآيات- التي يجد فيها النحاة مجالا القول- فنضرب صفحا عن النحو ومقولاته، ونفتح قلوبنا، وعقولنا إلى هذا النور الذي يتدفق من آيات اللّه وكلماته، فيكشف لنا معالم الطريق إلى مواقع الهدى، والخير والفلاح.
ونمود إلى موقفنا بين يدى آيات اللّه فنقول:
كذلك ينبغى أن يعلم النبي من أول الأمر، أنه رحمة مهداة من عند اللّه إلى عباد اللّه، كضوء الشمس، ونور القمر، وماء السحب.. وإنه مما يكدر هذه النعمة، أن يرى الناس منه استعلاء، أو تطاولا بتلك المنن التي سيقت إليهم على يده.. فإن النفوس تكره ممن يحسن إليها أن يمنّ عليها بإحسانه، ويذكّرها به، وكأنه يريد لذلك ثمنا، أىّ ثمن، من ولاء وخضوع، أو من جاه وسلطان {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} والأولى من هذا، أن يبذل المحسن إحسانه، من غير التفات إلى مواقعه ممن أحسن إليهم بالنسبة إليه، وما أحدثه ذلك في نفوسهم من تصافر أمامه، أو تسبيح بحمده والثناء عليه.
والإحسان من النبي- كما قلنا- هو إحسان منظور إليه على أنه من اللّه مباشرة إلى الناس، وأن النبىّ هو حامل هذا الفضل، وموصّل هذا الإحسان إليهم.
وبهذه النظرة إلى رسالة النبي، من جهته هو، ومن جهة المرسل إليهم، تقوم الرسالة على ميزان صحيح، مستقيم.
فالرسول يرى في ضوء هذه النظرة، أن حسابه في هذه الرسالة مع ربه، وأن جزاءه عليها، هو من اللّه سبحانه وتعالى.. وهذا يجعل من شأنه ألا ينظر إلى الناس نظرة المحسن المتفضل.
والمرسل إليهم يرون أن الذي يدعوهم إليه، هو ربهم، وليس بشرا مثلهم، وأنهم إذ يستجيبون المرسول، فإنما يستجيبون للّه.. وهذا من شأنه أن يخفف كثيرا من مشاعر الغيرة والحسد عندهم، ويذهب بكثير من دوافع الحميّة والأنفة والاستعلاء التي تملأ صدورهم، والتي كثيرا ما تقوم حجازا بين الناس والناس، في تبادل المنافع، وتقبل النصح والإرشاد.
وفى قوله تعالى: {تستكثر} حال من فاعل {وَلا تَمْنُنْ} أي لا تمنن مستكثرا من المنّ.. وهذا يعنى أن بعض المنّ مسموح به في هذا المقام، على أن يكون ذلك من أجل خدمة الدعوة ولحسابها، كأن يقول النبي لقومه:
{لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى} [23: الشورى] {ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [86: ص] ونحو هذا مما علمه اللّه سبحانه وتعالى النبي أن يقوله المشركين في موقف الاحتجاج عليهم، ودفع التهم التي يتهمونه بها.. فهذا وإن كان فيه شيء من المنّ، إلا أن له ما يبرره من تصحيح أخطاء، وتلبيسات، وقعت في نفوس المشركين، من مقام الرسول فيهم هذا المقام، وأنه في نظرهم إنما يبغى من وراء هذا شيئا ما، وإلا فماذا يحمله على ركوب هذا المركب الصعب إليهم؟
ثم يكون ختام ما يوصى به النبي في هذا المقام أن يتجمل بالصبر، وأن يوطن نفسه على احتمال الضر والأذى، فإن طريقه إلى قومه ملىء بألوان من المساءات والسفاهات التي يرصدونها له.
ولمن هذا الصبر على المكاره؟ إنه للّه، وفى سبيل اللّه.. {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} هذا، ويلاحظ أن الإنذار في قوله تعالى: {قُمْ فَأَنْذِرْ} قد جاء مطلقا من قيد الزمان، والمكان، والإنسان.. فحيث كان النبي في أي مكان وأي زمان، فهو قائم بالإنذار، وحيث التقى بإنسان من أية أمة، وأي قبيل كان مطلوبا منه أن ينذره.. إنه رحمة عامة، تملأ الزمان والمكان، وتستوعب الناس جميعا في كل زمان، وكل مكان.


{فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30)}.
التفسير:
قوله تعالى: {فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} الفاء في قوله تعالى: {فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} هى فاء الفصيح، ويراد بما بعدها الإفصاح عما تضمنه الكلام قبلها، من إشارات وتلميحات.
وهنا نجد أن قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ. وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ. وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ. وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ. وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} نجد في هذه الآيات دعوة آمرة من اللّه سبحانه وتعالى إلى النبىّ بأن يقوم في الناس منذرا، ولم تبين له الآيات ما ينذر به، فجاء قوله تعالى: {فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ. فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ. عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ}.
جاء مفصحا عما ينذر به، وهو يوم القيامة، وما يلقى أهل الضلال فيه من شدائد وأهوال.
وقد يسأل سائل:
أبهذا النذير يبدأ الرسول رسالته، ولا يبدؤها بالدعوة إلى الإيمان باللّه، الذي هو رأس الأمر كله، ومقطع الفصل فيما بين المؤمن والكافر؟
والجواب على هذا- واللّه أعلم- هو- كما قلنا في أكثر من موضع- أن الإيمان بالحياة الآخرة، وبالحساب والجزاء، هو مضلّة الكافرين جميعا، إذ يبدو لهم أن بعث الموتى من قبورهم بعد أن يصبحوا رفاتا وترابا- أمر لا يمكن أن يقع، ولا تستطيع عقولهم تصوّره، وأن كثيرا من مشركى العرب كانوا يؤمنون باللّه إيمانا مشوبا بالضلال، وباتخاذ معبودات يعبدونها من دون اللّه تقربا إليه بعبادتها، وأنهم كانوا- مع هذا- مستعدّين أن يقبلوا الإيمان باللّه، وعبادته وحده، ولم يكونوا مستعدين أبدا، أن يقبلوا هذا الإيمان، وفى مقرّراته البعث والحساب والجزاء.
ولهذا نجد أكثر مواقف القرآن الكريم مع المشركين، هو في الرّد على مقولاتهم في البعث، وفى إنكارهم له، واستبعادهم لوقوعه.. فما أكثر ما ذكر القرآن الكريم من مقولاتهم في هذه القضية، وما أكثر ما عرض عليهم من الأدلة والحجج، التي تبطل معها مدّعياتهم، وتسقط بها حججهم.
أما في مقام وحدانية اللّه، فلم يكن للمشركين موقف كهذا الموقف من قضية البعث، ولم يكن لهم جدل طويل يديرونه مع النبىّ، كما كان ذلك شأنهم في أمر البعث، وإن كلّ ما ذكره القرآن عنهم من حجة في أمر الوحدانية، لا يعدو أن يكون دفاعا عن وجود آلهتهم واعتبارها ممثلة للّه في الأرض.
كل إله منها يصلهم باللّه عن طريق خاص به.. ولم تتسع عقولهم القاصرة أن ترى اللّه غير مجسد في هذه الدّمى، وتلك النّصب. فكان مما ذكره القرآن عنهم قوله تعالى: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ..} [5: ص] وقوله تعالى فيما يقولونه عن آلهتهم، وصلتها باللّه: {هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ} [18: يونس].. {ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى} [3: الزمر].
من أجل هذا بدأت رسالة النبىّ بالإنذار بهذا اليوم، يوم القيامة، وما فيه من عذاب أليم المشركين والكافرين، وأهل الضلال جميعا.
وهذا ما كان من الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- فإنه ما إن تلقّى هذا الأمر من ربّه، حتى دعا قومه إليه- كما تقول كتب السيرة الموثقة- وخطب فيهم قائلا: «يا معشر قريش: أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل أكنتم تصدّفوننى؟» قالوا نعم: أنت عندنا غير متّهم، وما جرّبنا عليك كذبا قط قال: «فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد» فقال أبو لهب لعنه اللّه: تبّا لك سائر اليوم.. ألهذا دعوتنا؟ فنزلت سورة اللهب.
فهذا أول ما أنذر به النبي قومه.. وهو يوم القيامة.
وقوله تعالى: {فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} أي نفخ في الصور، وسمى الصور ناقورا، لأنه ينقر فيه حتى يحدث صوتا.. فهو اسم آلة، مثل ساطور، وقادوم.
وقوله تعالى: {فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ} هو جواب {فإذا}، أي فإذا نفخ في الصور، فعندئذ يطلع هذا اليوم العسير على الكافرين.
وقوله تعالى: {عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ}.
هو توكيد ل قوله تعالى: {فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ} وهذا ما يشير إليه قوله تعالى في آية أخرى: {يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ} [8: القمر] قوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ}.
هذا عرض لصورة من صور المنذرين الذين أنذرهم الرسول فسخروا منه ووقفوا جبهة متحدية له آخذة الطريق عليه إلى الناس وإلى تبليغهم رسالة ربه.
ويقال إن الموجّه إليه هذا التهديد، هو الوليد بن المغيرة.. وبهذا القول- إن صحّ- يكون الوليد هو الصورة التي يرى فيها كلّ مشرك معاند، ذاته ويشهد المصير الذي هو صائر إليه.
وقوله تعالى: {ذرنى} هو تهديد بالنكال والبلاء وباتجاه عذاب اللّه كله إلى هذا الإنسان الشقي الموجه إليه هذا الإنذار.. وقد أشرنا إلى معنى هذا عند تفسير قوله تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا}.
في سورة المزمل (11) وقوله تعالى: {وحيدا} هو حال من فاعل: {خلقت} وهو اللّه سبحانه وتعالى، أو هو حال من المفعول المحذوف وتقديره الهاء المحذوفة في {خلقت} ويجوز أن يكون حال من المفعول به في {ذرنى} أي ذرنى وحيدا مع من خلقته.
وقوله تعالى: {وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً} أي مالا كثيرا، متصلا، لا ينقطع.
وقوله تعالى: {وَبَنِينَ شُهُوداً} أي وجعلت له بنين حاضرين بين يديه، أي لم يموتوا، كما يموت كثير من البنين، بعد أن يوهبوا لآبائهم.
فهذا المال الذي أعطيته إياه، لا يزال بين يديه ممدودا متصلا، وهؤلاء الأبناء الذين بين يديه، حاضرون شهود لم يغيبوا عنه.. وفى هذا تهديد له بذهاب هذا المال، وفقد هؤلاء الأبناء، كما ذهبت أموال كثيرين، ومات أبناء كثيرين.
وقوله تعالى: {وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً} أي هيأت له حياة رخيّة، بالمال، والبنين، الذين هما زينة الحياة الدنيا.
وقوله تعالى: {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ} ثم إن هذا الضال العنيد، على طمع أن أزيده مالا وبنين، وذلك بما زين له ضلاله بأنه إنما أوتى ما أوتى لفضيلة اختصّ بها، ولصفات استأثر بها دون الناس، وأنّ ما بين يديه قليل إلى ما يمنّى به نفسه الملوءة غرورا.
وقوله تعالى: {كَلَّا.. إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً} هو رد على أمنيات هذا الضال، وتوقعاته بأن يزداد مالا وبنين.. وكلا.. بل إن ما معه سيأخذ منذ اليوم في النقصان، حالا بعد حال، حتى يموت، ونفسه تتقطع حسرة على ما ذهب من ماله وولده.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} أي سآخذه بالرهق والشدة حالا بعد حال، مصعّدا به من شدة إلى أشد منها.
وهكذا حتى يذهب كل ماله، وجميع بنيه، وهو يرى ذلك فيتقطع قلبه حسرة وكمدا.
قوله تعالى: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ}.
فى هذه الآيات صورة معجزة من صور البيان القرآنى، الذي تعجز أدق ألوان البيان مجتمعة أن تتعلق بأذياله.
فبالكلمة، شعرا ونثرا، وبالصورة المتحركة والساكنة، والناطقة والصامتة، وبالموسيقى، ألحانا مفردة ومجتمعة.. وبكل ما عرفت الإنسانية من ألوان الإبانة والتعبير- لا يمكن أن تجىء- ولو من بعيد- بمثل هذه الصورة القرآنية التي صوّر بها هذا الإنسان الشقىّ العنيد، ظاهرا وباطنا، فلم تدع الصورة خلجة من خلجات ضميره، أو مسربا من مسارب تفكيره، أو همسة من همسات خاطره، إلا ألقت بها على قسمات وجهه، ونظرات عينيه، وحركات شفتيه، فكانت شخوصا ماثلة للعيان.
وانظر كيف كانت مسيرة هذا الضال العنيد، مع آيات اللّه، التي تليت عليه من رسول اللّه.. فلقد روى أن الوليد بن المغيرة- وكان ذا مكانة بارزة في قريش، وأشدهم عداوة لرسول اللّه، وكان موسم الحج قد حضر- دعا سادة القوم إليه، فقال لهم: يا معشر قريش، إنه حضر هذا الموسم، وإن وفود العرب ستفد عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا (يعنى رسول اللّه) فأجمعوا فيه رأيا واحدا، ولا تختلفوا فيه، فيكذّب بعضكم بعضا.. قالوا فأنت يا أبا عبد شمس، فقل، وأقم لنا رأيا نقول به، قال: بل أنتم، فقولوا أسمع!
قالوا: نقول: كاهن!! قال: لا، واللّه ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان، فما هو- أي النبي- بزمزمة الكاهن ولا سجعه.
قالوا: فنقول مجنون؟ قال: ما هو بمجنون.. لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه، ولا تخالجه، ولا وسوسته!! قالوا.. فنقول شاعر! قال: ما هو بشاعر.. لقد عرفنا الشعر كله، رجزه، وقريضه، ومقبوضه، ومبسوطه، فما هو بالشعر.. قالوا فنقول: ساحر!! قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحار وسحرهم، فما هو- أي النبي- بنفثه، ولا عقده! قالوا: فما تقول يا أبا عبد شمس؟، قال: واللّه إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعذق وإن أعلاه لجناة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئا، إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه أن تقولوا: إنه ساحر. جاء بقول هو سحر، يفرق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه.. فتفرقوا عنه بذلك الرأى، وجعلوا يلقون أهل الموسم على كل طريق، ويقولون لهم: احذروا ساحرنا! وبروى عن ابن عباس، أن الوليد بن المغيرة هذا، جاء إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم، يدعوه إلى أن يرجع عن دعوته، وألا يشيع الفرقة والخلاف بين أهله وعشيرته، فتلا عليه النبي آيات من آيات اللّه، فرقّ لها قلب الوليد، وخرج من بين يدى النبي، وكأنه يحدث نفسه بأمر غير الذي جاء به. فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه، فقال: يا عمّ. إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالا! قال: لما ذا؟ قال: ليعطوكه، فإنك أتيت محمدا لتعرض لما قبله (أي لتنال مما عنده من طعام أو نحوه) فقال: لقد علمت قريش أنى من أكثرها مالا! قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له، كاره لما يقول! فقال: وما ذا أقول؟ فواللّه ما فيكم رجل أعلم بالأشعار منّى... واللّه ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، وإن لقوله الذي يقول لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته!! قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه.. قال: فدعنى حتى أفكّر فيه، فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر!! أي يأثره، ويقتفى فيه أثر غيره، فنزل قوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً.. الآيات} وننظر في سيرة هذا الضالّ العنيد مع آيات اللّه التي تلاها عليه رسول اللّه، وكيف كان يلقاها بتلك المشاعر المتضاربة المضطربة، التي تتأرجح به بين التصديق والتكذيب، والإيمان والكفر.. ثم تغلب عليه شقوته آخر الأمر، فإذا هو على رأس المكذّبين الضالين.
{إِنَّهُ فَكَّرَ} فيما تلى عليه من آيات اللّه.. فقد كان من شأن هذه الآيات أن تهزّ الجماد، وتذيب الصخر!.
{وَقَدَّرَ} أي جعل يزن ويقدّر كلّ ما كان يطرقه من أفكار.
{فَقُتِلَ.. كَيْفَ قَدَّرَ} دعاء عليه بالقتل، لهذا التقدير العجيب الذي قدّره.. إذ كيف يسوغ لمن فكر، أن يقيم ميزانا لأى كلام، مع كلمات اللّه؟.
{ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} توكيد الدعاء عليه بالقتل، وتوكيد للتعجب من توقفه بعد تفكيره، عن أن يقول قولة الحقّ في آيات اللّه.
{ثُمَّ نَظَرَ} أي نظر فيما اجتمع له، من آراء مختلفة في القرآن.
أهو شعر؟ لا ليس بشعر؟
أهو كهانة؟ لا ليس من الكهانة في شىء.
أهو قول مجنون؟ كلّا فما قائله بمجنون، ولا فيما يقوله إلّا أحكم المنطق وأصوب القول.
وهكذا، تدور الخواطر في نفسه، وتصطرع الآراء في عقله، وهو عاجز عن أن يخرج من هذه العاصفة المزمجرة التي احتوته.
{ثُمَّ عَبَسَ}.
هذه انطباعة من أثر هذا الصراع الدائر في كيانه.
لقد طرقه خاطر مخيف فردّه بهذا العبوس، والتجهم.. ولعل هذا الخاطر كان يدعوه إلى أن يستسلم للحق، ويخرج على قريش معلنا إيمانه بآيات اللّه، وتصديقه برسول اللّه!! ولكن هذا العبوس قد ردّ هذا الخاطر، وألقى به في عباب الخواطر التي تموج في صدره.
{وَبَسَرَ} أي زاد على العبوس تقطيبا، وزمّا لفمه، وتكشيرا عن أنيابه.
وهذه كلها تكشف عن حركات نفسية، تغدو وتروح، وتقبل وتدبر، في صدر هذا الشقي العنيد، الذي يموج بهذه المشاعر المتضاربة.
{ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ} هذه هى الجولة الأخيرة في هذا الصراع الذي كان محتدما في نفسه.. لقد انهزم العقل، وانتصر الهوى، وغابت الحكمة، وحضر الطيش والنزق.. وانتهى الأمر بأن أعطى هذا الشقي العنيد ظهره للحقّ، وأخذته العزّة بالإثم، فأبى أن يتبع سبيل المؤمنين.
{فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ}!! وبدلا من أن يقول: لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه قال {إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} أي ما هذا الذي يتلوه محمد علينا- ما هو إلا سحر، عجيب، لا بد أن يكون قد تلقاه عن خبير بالسحر وفنونه، واقتفى أثره فيه.
{إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ}.
ثم لقد ازداد الشقىّ العنيد جرأة على الحقّ، فبعد أن كان يلقاه خائفا لا يكاد يواجهه، فيقول عن القرآن: {إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} رافعا قدره عن أن يكون من كلام البشر- إذا هو بعد هذه القولة الآثمة، يخطو خطوة أخرى نحو الضلال، فيقول: {إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ!}.
إنه مجرد كلام، لا يصل إلى أن يكون سحرا! وهكذا الحق بسطوته وقوته، يكشف عن جبن أعدائه، حتى وهم- في ظاهر الأمر- غالبون منتصرون.
هذا، ومن الملاحظ أن العطف بين أحوال هذا الشقي الأثيم، قد جاء بالحرف {ثمّ} الذي يفيد التراخي.
{ثُمَّ نَظَرَ.. ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ.. ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ}.
ففى كل حال من تلك الأحوال، عاش هذا الشقي زمنا، مقدّرا، ومفكرا، ثم إنه ما إن انتهى من هذا الصراع الذي يدور في كيانه، وما إن أمسك بالكلمة التي يطلع بها على القوم، حتى بادر بإلقائها إليهم قبل أن تفلت منه، ويغلبه عليها ما يدور في خاطره من كلام لا يقبلونه منه.. ولهذا جاء العطف بالفاء التي تفيد التعقيب دون تراخ، أو إمهال.. {فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ، إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} وكما أسرع الشقىّ بكلمة الكفر يجهر بها، قبل أن تفلت منه- كذلك أسرع إليه العقاب الذي يستحقه بسبب هذه القولة الفاجرة التي صدرت عنه.. فيجىء في أعقابها قوله تعالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ}.
يجىء هذا الوعيد، الذي يحمل {سقر} إلى هذا الشقىّ، أو يحمله هو إليها، من غير حرف عطف أصلا، يفصل بينه وبين قوله الآثم، وكأنّ هذه النار التي سيصلاها، هى بعض هذا القول الخارج من فمه.. وإذا هذه النار مشتملة عليه.. تأكله، كما تأكل الحطب! و{سقر} هى جهنم، وقيل اسم من أسمائها، أو درك من دركاتها.
إنه لم يكن بين قول هذا الشقىّ، وبين الآية التي حملت إليه هذا الوعيد- لم يكن ثمة فاصل، لفظى أو تقديرىّ.. وهذا يعنى أن هذه الجريمة تحمل معها عقابها دائما، فلا ينفصل عنها بحال أبدا.
{وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ}.
استفهام يراد به الإشارة إلى أن المستفهم عنه شيء مهول، لا يمكن وصفه.. لأنه مما لم يقع في حياة الناس أبدا.
{لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ}.
إنه وصف لسقر، بأفعالها، وما تترك من آثار.. أما ذاتها فلا يمكن تصورها.
ومن صفاتها، أنها لا تبقى شيئا إلا التهمته، وجعلته وقودا لها، كما لا تذر أحدا من أهل الضلال إلا ضمته إليها، وأذاقته بأسها، لا تدع منه ظاهرا أو باطنا إلا ذاق عذابها.
{لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ}.
أي أنها مغيّرة لألوان البشر، إلى لون الفحم، بما تلفح به وجوههم من لهيبها.
{عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ}.
أي على هذه النار، التي هى سقر، تسعة عشر من الزبانية، يقومون على حراستها، وتقليب الحطب المقدّم إليها من المكذبين والضالين، الذين يلقى بهم فيها، ليكونوا وقودا لها.


{وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31) كَلاَّ وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ}.
فى هذه الآية بيان لما أحدثه قوله تعالى في الآية السابقة على هذه الآية، وهى قوله تعالى: {عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ} من تعليقات هازئة ساخرة من المشركين.
فكان من سمرهم الذي يسمرون به، هو الحديث عن هؤلاء التسعة عشر الذين يقومون على حراسة جهنم، وكيف يمكنهم أن يمسكوا الناس فيها، والناس أعداد لا حصر لها؟ إن قريشا وحدها كفيلة بأن تكفّ بأس هؤلاء الجند، أيّا كان بأسهم وقوتهم.. بل إن بعض هؤلاء الساخرين منهم ليقول: أنا أكفيكم سبعة عشر، واكفوني أنتم الاثنين!! فجاء قوله تعالى: {وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً} ليردّ على سخرية هؤلاء الساخرين، ويكبتهم بها. إن هؤلاء التسعة عشر ليسوا مجرد عدد، وإنما هم ملائكة.. وإنهم ليعرفون الملائكة، ويتخذون منهم أربابا يعبدونهم من دون اللّه.. فهل لهم بهذا الجند من جند اللّه يدان؟
وقوله تعالى: {وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} أي ما ذكر اللّه عدة هؤلاء الجند، وحصرهم في تسعة عشر، دون أن يبلغوا العشرين، مثلا، ليكونوا عددا كاملا- ما ذكرهم اللّه، وحصر عددهم في هذا العدد، إلا ليمتحن بذلك إيمان المؤمنين، وضلال الضالين، وقد كشف هذا الامتحان عن فتنة المشركين الذين اتخذوا من هذا العدد سبيلا إلى التفكّه، والتندر، والاستهزاء.
وقوله تعالى: {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً} إشارة إلى أن أهل الكتاب قد وجدوا أن ما أخبر به القرآن عن عدة أصحاب النار، من الملائكة مطابق لما عندهم من كتب اللّه.. كما أن المؤمنين سيزدادون إيمانا بما جاءهم من عند اللّه مصدقا لما في الكتب السابقة.
وفى التعبير بالاستيقان في جانب أهل الكتاب، وبازدياد الإيمان في جانب المؤمنين، مراعاة لمقتضى الحال في كلّ من الفريقين.. فأهل الكتاب- والمقصود به من أهل الكتاب هنا، هم أولو العلم منهم، الذين سلموا من الهوى المضل، الذي أفسد على كثير من علمائهم دينهم- فأهل الكتاب هؤلاء، يبعث فيهم هذا الخبر الجديد الذي جاء به القرآن- يقينا بأن ما يتلقاه محمد، هو وحي من عند اللّه.. هذا إلى ما كان عندهم من علم، بهذا النبي، المبشر به في كتبهم، والمبينة صفاته فيها.
وأما المؤمنون، فهم مؤمنون بصدق الرسول، من قبل نزول هذه الآيات، ومن بعد نزولها.. ولكنهم يزدادون إيمانا كلما تلقوا من آيات اللّه جديدا، يثبّت إيمانهم ويزيدهم قوة استبصار لمعالم الحق.. وهؤلاء المؤمنون، هم الذين آمنوا إيمانا خالصا من شوائب الشك والارتياب.
وقوله تعالى: {وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ}.
والذين أوتوا الكتاب هنا، هم مطلق اليهود والنصارى، وليس الذين ذكروا من قبل، والذين هم خاصّة علماء أهل الكتاب.. وكذلك المؤمنون هنا، هم الذين لم يقع الإيمان بعد موقعا متمكنا من قلوبهم.. فهؤلاء وأولئك ليس من شأنهم أن يرتابوا بعد هذا الذي جاء في آيات اللّه من أنباء الغيب عن عدة أصحاب النار، بعد أن تطابق هذا مع ما في التوراة.
وقوله تعالى: {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا} الذين في قلوبهم مرض هم المنحرفون من علماء أهل الكتاب، الذين غلبهم الهوى على كلمة الحق أن ينطقوا بها، والكافرون، هم المشركون الذين مازالوا على شركهم.. فهؤلاء، وهؤلاء، يتخذون من قوله تعالى: {عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ} مادة للاستهزاء، والسخرية.. كأن يقولوا مثلا: ما هذه التسعة عشر؟ ولما ذا لم تكن عشرين؟ {ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا} وقد ردّ اللّه على تساؤلهم هذا بقوله سبحانه: {كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ} أي هذه الأمثال التي يضربها اللّه للناس، هى مضلة لبعض الناس، كما أنها هداية لبعضهم.. فمن نظر إليها بقلب مريض، وبصر زائغ، لم يروجه الخير والحق فيها، وارتد إلى الوراء مرتكسا في متاهات الغواية والضلال.. ومن جاء إليها بقلب سليم، وعقل محرّر من الهوى- رأى الطريق القويم إلى اللّه، فسلكه، واستقام عليه.. وهذا مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا؟ يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً، وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ} [26: البقرة].
وقوله تعالى: {وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} هو ردّ على المستهزئين الساخرين، الذي اتخذوا من عدد التسعة عشر مادّة للاستهزاء والسخرية، حتى لقد بلغ بهم القول بأن اللّه لا يملك من الجند إلا هؤلاء التسعة عشر، ولو كان يملك أكثر منهم لجعلهم عشرين لا تسعة عشر.. وكذبوا وضلوا، فإن جنود اللّه لا حصر لها، ولا يعلم عددها إلّا هو سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: {وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ} الضمير {هِيَ} يعود إلى عدة في قوله تعالى: {وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا}.
أي أن هذه العدة، هى موضع ذكرى، وعبرة الناس.. كما علم منها أهل الكتاب مطابقة ما جاء في القرآن لما في كتبهم، والتزام هذه الكتب جميعها هذا العدد، دون تبديل فيه، أو تحريف له، فيما حرّف أهل الكتاب وبدلوا، لأنه لا مصلحة لهم في هذا التبديل، والتحريف.. ويجوز أن يكون هذا الضمير عائدا إلى {سقر} في قوله تعالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ}، ومع سقر الجنود القائمون عليها، وعدتهم تسعة عشر.. فسقر، والجنود القائمون عليها، هى ذكرى للبشر.
قوله تعالى: {كَلَّا وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ}.
{كلّا} هنا، نفى يحمل الرّدع والزجر، لأولئك الذين لم يجدوا في تلك الآيات التي تحذرهم من النار، وتخوفهم من جنودها- لم يجدوا في ذلك ذكرى وموعظة لهم.
وكلا، إنها ليست ذكرى للبشر، أي لمعظم البشر، إذ كان أكثر الناس على الضلال، وقليل منهم المهتدون، المؤمنون.
وقوله تعالى: {والقمر} قسم بالقمر.
وقوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ} معطوفان على القمر، ومقسم بهما معه.. فهى ثلاثة أقسام، تجمع: القمر، والليل، والصبح.
وقد جاء القسم بالقمر مطلقا، دون ذكر حال من أحواله، أو صفة من صفاته.. إنه القمر، والقمر لا يسمى قمرا إلا مع تمامه وكماله.
وجاء القسم بالليل مقيدا بظرف خاص، وهو إدباره، وتولّيه.. على حين جاء القسم بالصبح حال إسفاره، وظهوره.
وقد فرّق النظم القرآنى المعجز بين الحالين، حال إدبار الليل، وحال إسفار الصبح.. إنها لحظة واحدة، يلتقى عندها إدبار الليل، وإسفار الصبح، وقد وزّع النظم القرآنى هذه اللحظة، فجعل بعضا منها يذهب مع الليل الذاهب، وبعضا منها، يتراءى خلف الصبح المقبل.. ولهذا جاء لفظ {إذ} مع إدبار الليل {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ}.
وهذا يعنى الزمن الماضي من تلك اللحظة.. فلقد أدبر الليل، ومضى، وذهب سلطانه الذي كان قائما على تلك الرقعة المبسوط عليها من هذا العالم.. أما الصبح، فهو وليد جديد، يخطو خطواته نحو المستقبل، فهو زمن ممتدّ، ولهذا جاء الظرف المتلبس به بلفظ {إذا} التي تدل على الزمن المستقبل.. {وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ}!! ولعل سائلا يسأل هنا:
وماذا وراء الجمع بين هذه الأقسام الثلاثة: القمر، والليل المدبر، والصبح المسفر؟ إن القرآن الكريم لا يجمع بين هذه العوالم إلّا وهو يشير من هذا الجمع إلى ملحظ، فيه عبرة، وعظة- فماذا يكون هذا الملحظ؟!
نقول- واللّه أعلم- إن القسم بالقمر، والليل المدبر، والصبح المسفر، هو إشارة إلى مبعث النبىّ صلوات اللّه وسلامه عليه، وإلى ما بين يدى مبعثه وما خلفه، من مجريات الأحداث، التي تطل على الناس.
فالقمر- واللّه أعلم- هو إشارة إلى الرسالات السماوية التي سبقت عصر النبوّة.. فقد كانت تلك الرسالات هى النور، الذي يشعّ في وسط هذا الظلام المخيم على العالم، وأن نور هذا القمر لا يمنح الناس رؤية كاشفة، وإن أراهم مواقع أقدامهم. وألقى في قلوبهم شيئا من الطمأنينة والأنس، ثم إنه لا يلبس أن يختفى، ويتحول عن الناس.
وإسفار الصبح هو إيذان بمبعث النبي، وأنه الشمس التي ستشرق على هذا الوجود، وأن أضواء شمس النبوة قد أزاحت ظلمة الليل عن هذا الوجود، وأنه سرعان ما تطلع الشمس فتملا الوجود ضياء، وتكسو العالم حلّة من بهاء وجلال، حيث تنكشف حقائق الأشياء، وتسفر عن وجهها لكل ذى بصر يبصر، ومن شمس النبوة المحمدية استمدّت الرسالات السابقة نورها من ضوء هذه الشمس، قبل أن يستقبل الوجود مطلع هذه الشمس، فلما طلعت محت بضوئها آية القمر، وكان على من يريدون أن يسيروا على هدى ونور أن يستقبلوا هذا النور، وأن يملئوا أعينهم به.
قوله تعالى: {إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ نَذِيراً لِلْبَشَرِ}.
الضمير في إنها يعود إلى {سقر}.
وهى إحدى منازل الكافرين والضالين يوم القيامة.. فإن جهنم- أعاذنا اللّه منها- لها سبعة أبواب، ولكل باب أهله الذين يدخلون منه إلى النار المعدة لهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} [43- 44: الحجر].
وقوله تعالى: {نَذِيراً لِلْبَشَرِ} تمييز لإحدى الكبر، أي أن سقر هى إحدى الكبر من جهة الإنذار والتخويف بها.. أي أنها من الآيات الكبرى، التي من شأنها أن تهز النفوس من أقطارها، وأن تبعث في القلوب الخشية والفزع من لقاء هذه الأهوال التي تطلع بها جهنم على أهلها، وفى هذا أبلغ نذير لمن يبصر النذر وينتفع بها.
قوله تعالى: {لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ}.
هذا بدل من قوله تعالى {للبشر} أي أن سقر هى نذير لمن شاء أن يتقدم فيؤمن باللّه، ويمضى على طريق الحق والهدى، كما أنها نذير لمن شاء أن يتأخر فيرتد على عقبه، ويغيب في متاهات الكفر والضلال.
قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ..}.
أي كل نفس مرتهنة بما كسبت، مأخوذة بما عملت، مجزية بالخير خيرا، وبالسوء سوءا.
قوله تعالى: {إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} هو مستثنى من قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}.
فهذا حكم عام على الناس جميعا، مؤمنين وغير مؤمنين، حيث ترتهن كل نفس بما عملت، ثم يعود اللّه سبحانه وتعالى يفضله على المؤمنين، أصحاب اليمين، فيدخلهم الجنة.. ولو أن دخول الجنة كان مرتهنا بالأعمال، لما دخل أحد الجنة ولكن الإيمان باللّه، والأعمال الطيبة في ظلّ الإيمان، من شأنه أن يجعل المؤمن أهلا لإحسان اللّه إليه، ودعوته إلى الجنة، يتبوأ منها حيث يشاء.
وفى الحديث: «لا يدخل أحد الجنة بعمله، قيل ولا أنت يا رسول اللّه؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدنى اللّه برحمته».
وقوله تعالى: {فِي جَنَّاتٍ} خبر لمبتدأ محذوف، تقديره، هم في جنات.
وقوله تعالى: {يَتَساءَلُونَ} حال من أحوال المؤمنين في الجنة.
وقوله تعالى: {عَنِ الْمُجْرِمِينَ} تتعلق بقوله تعالى: {يتساءلون} أي أن تساؤلهم في تلك الحال هو تساؤل عن المجرمين، أهل النار.
وقوله تعالى: {ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} هو مما تساءل به أهل الجنة، عن أهل النار، حيث اطلعوا عليهم، فسألوهم: {ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ}؟ أي ما نظم جمعكم فيها، وشدكم إليها، كما يشد الخرز في سلكه؟.
وأهل النار، وأهل الجنة، يرى بعضهم بعضا، ويحادث بعضهم بعضا.
أصحاب النار.. يصرخون، ويصرخون، وأصحاب الجنة يحمدون اللّه أن عافاهم من هذا البلاء الذي يرون كثيرا من أهلهم، وعشيرهم، وصديقهم، بتقلبون على جمره.
وهذا ما يشير إليه سبحانه وتعالى في قوله جل شأنه:
{وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ} [50: الأعراف].
قوله تعالى: {قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ}.
هذا هو الجواب الذي أجاب به أصحاب النار أصحاب الجنة عن تساؤلهم عنهم: {ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ}؟
إن الذي سلكهم في سقر، هو أنهم لم يكونوا من المصلين، أي لم يكونوا مؤمنين، لأنهم لو كانوا مؤمنين، لكانوا من المصلين... وأنهم لم يكونوا يؤدون حق عباد اللّه فيما خولهم اللّه من نعم، فلم يطعموا المساكين، ولم يخرجوا زكاة أموالهم، التي منها يطعم المسكين.. وأنهم يخوضون مع الخائضين، فلم يتأثّموا من منكر، ولم يتحرجوا من فاحشة.
بل كانوا مع كل جماعة ضالة، وعلى كل مورد آثم.. وأنهم كانوا يكذبون بيوم الدين، أي يوم القيامة، فلم يؤمنوا بالبعث، والحساب، والجزاء.
هذا، وليس من اللازم أن تكون هذه المآثم جميعها مجتمعة في كل واحد منهم.. فقد يكون في أهل النار من تجتمع فيه هذه المآثم كلها، وقد يكون فيهم من تلبسّ بمأثم منها، فيدخل النار.. وعلى هذا يمكن أن تكون إجاباتهم تلك مشاعة فيما بينهم، كما يمكن أن يكون لكل أهل مأثم جوابهم الذي كشفوا به عن دخولهم النار بسببه.
وعلى أىّ فإن أىّ مأتم من تلك المآثم يخرج صاحبه من عداد المؤمنين، وبضيفه إلى جماعة المجرمين.. والمجرم، هو الكافر، كما يقول سبحانه:
{إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى} [74: طه].
قوله تعالى: {حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ} إشارة إلى أنهم ظلموا متلبسين في حياتهم بهذه المآتم حتى أتاهم اليقين، وهو الموت، فماتوا على ما هم عليه من ضلال.
فلم تختم أعمالهم بالتوبة والعمل الصالح.
وسمّى الموت يقينا، لأنه عند الموت يعاين المحتضر حقيقة ما كان يكذب به، من أمور الحياة الآخرة.. ومنه قوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [99: الحجر].
روى أن أم العلاء الأنصارية، قالت: لمّا قدم المهاجرون المدينة، اقترعت الأنصار على سكناهم، فصار لنا من المهاجرين، عثمان بن مظعون في السكنى، فمرض، ثم توفّى، فجاه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فدخل، فقلت: رحمة اللّه عليك أبا السائب، فشهادتى أن قد أكرمك اللّه! فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: «وما يدريك أن اللّه قد أكرمه؟» فقلت: لا، واللّه ما أدرى!! فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: «أما هو فقد أتاه اليقين من ربه، وإنى لأرجو له الخير، واللّه ما أدرى وأنا رسول اللّه ما يفعل بي ولا بكم»! فقول الرسول الكريم: {أما هو فقد أتاه اليقين من ربه} يشير إلى أن عثمان بن مظعون، هو الذي يعرف المصير الذي صار إليه، بعد أن مات، وكشف عن عينيه الغطاء.. فالموت هو الذي جاء بالخبر اليقين، ولهذا سمى الموت باليقين، لأنه يرد بالإنسان مورد الحق.
قوله تعالى: {فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ}.
هو تعقيب على ما ذكر المجرمون من جرائمهم التي ألقت بهم في جهنم.. وهذا التعقيب هو من أصحاب الجنة الذين سألوهم، وتلقوا منهم جواب ما سألوا عنه، فكان تعقيبهم على هذا بقولهم: {فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ}.
فتكون الفاء هنا واقعة في جواب شرط محذوف تقديره: وإذن فهم كافرون، وإذن فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ.
لأن الكافرين لا شفيع لهم، على حين أن عصاة المؤمنين يشفع لهم من الملائكة، والنبيين، والصديقين، والشهداء والصالحين، ممن رضى اللّه عنهم، وارتضى شفاعتهم فيمن يشفعون لهم.
قوله تعالى: {فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ؟}.
استفهام إنكارى، ينكر على هؤلاء المشركين إعراضهم عن التذكرة، وهو القرآن الكريم، الذي يذكرهم باللّه، ويكشف لهم الطريق إليه.
وقوله تعالى: {معرضين} حال من الضمير في {لهم}.
وهذا الاستفهام في مقام غير المقام الذي كان فيه هؤلاء الكافرون في جهنم.
إنهم هنا في الدنيا- بعد أن عرضوا على جهنم، وجاءهم الخبر اليقين هناك بأن لا شفيع لهم من عذابها.. فإذا أعيدوا إلى الدنيا بعد هذه الرحلة الجهنمية لقيهم هذا السؤال: {فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ}؟ أي إذا كان هذا هو مصير الكافرين.. فما لهم- وهم الآن في فسحة من أمرهم- يعرضون عن آيات اللّه التي تفتح له باب النجاة من هذا الكرب العظيم؟.
{كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ}.
حال من أحوالهم في إعراضهم عن القرآن، ونفورهم منه.. إنهم ما إن يسمعون آيات اللّه تتلى، حتى يفزعوا وينفروا كما تنفر الحمر، وقد اشتمل عليها الذعر، حين رأت قسورة أي أسدا، مقبلا عليها.. وسمى الأسد قسورة، أخذا من القسر، والقسوة.
وفى تشبيههم بالحمر المستنفرة من بين سائر الحيوانات التي إذا رأت الأسد فرت من وجهه- لأن الحمار يمثل الغباء والبلادة من بين سائر الحيوان، وبه يضرب المثل في هذا، كما يقول سبحانه: {كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً} [5: الجمعة].
وفى إسناد الاستنفار إلى تلك الحمر في قوله تعالى: {مستنفرة} بدلا من أن يسند الاستنفار إلى من استنفرها، فيقال: {مستنفرة} في هذا إشارة إلى أن ذلك طبيعة غالبة عليها، وأن من شأنها النفور دائما، دون أن يكون هناك سبب لنفارها.. إنها ذات طبيعة وحشية، لا تأنس في ظلّ من سكينة أبدا.
وفى وصف الحمر بأنها {مستنفرة} بدلا من {نافرة} إشارة أخرى إلى أنها تستدعى هذه الطبيعة الكامنة منها، وتهيجها وتحركها من غير سبب يدعو إليها، كما أن بعض هذه الحمر يستدعى بعضا إلى هذا النفور، فتمضى في طريقها عليه، من غير دافع إلا هذا التقليد الأعمى.
وهذه حال تمثل أهل الضلال أصدق تمثيل، إنهم وهذه الحمر المستنفرة على سواء.. ففى طبيعتهم نفور ملازم كل دعوة إلى خير، وهم دائما يتبعون أول ناعق يدعوهم إلى النفور من وجه الحق.
وشبه القرآن بالقسورة، لما للقسورة من هيبة، تملأ القلوب، وتملك المشاعر.. ثم هو إلى مهابته وسطوته، بعيد عن الدنايا، عف عن القذر لا يأكل الميتة، ولو مات جوعا..!
ولم يسمّ القرآن الأسد أسدا، وإنما سماه {قسورة}، ليكسوه بهذا الاسم ذى الجرس الموسيقى القوى هيبة إلى هيبة، وعظمة، إلى عظمة، الأمر الذي لا يحققه لفظ أسد، الضامر، المبتذل على الأفواه لكثرة تردده.
قوله تعالى: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً}.
هو إضراب عن دعوتهم إلى ترك الإعراض عن القرآن، حتى يكون لهم منه ذكر وموعظة.
وكلّا فإنهم لا يستجيبون لهذه الدعوة، لأن كلّا منهم يريد أن يكون له كتاب من عند اللّه، كهذا الكتاب الذي يدعوهم إليه رسول اللّه.
وهذا ما يشير إليه سبحانه في قوله على لسانهم: {وقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} [134: الأنعام].. وهذا جهل وغباء لا يستقيم إلا على منطق الحمر! قوله تعالى: {كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ}.
أي أنهم لن يؤتوا هذه الصحف أبدا.. وأنهم لا يؤمنون بالآخرة أبدا، ولا يخافون عذابها، ولا يعملون على توقّى هذا العذاب.
وهؤلاء هم المشركون الذين ماتوا على الشرك، ولم يقبلوا دعوة الإسلام، وهذا هو حكم اللّه عليهم، وقضاؤه فيهم.
قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ}.
الضمير في {إنه} القرآن الكريم، الذي أشارت إليه الآية السابقة:
{فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ}.
وإنه ليس عن شأن هذه التذكرة أن تحمل هؤلاء المشركين حملا على الخوف من عذاب الآخرة.. وليس القرآن إلا تذكرة، للغافلين، وتنبيها للشاردين.
قوله تعالى: {فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ} أي فمن شاء ذكر ربه بهذا القرآن.. إنه أمر مردّد إلى الإنسان نفسه، وإلى إقباله على ذكر اللّه، أو إعراضه عنه.. ولو كان الأمر على سبيل القهر والإلزام لما كان ثمّة امتحان وابتلاء تنكشف به أحوال الناس، وتختلف فيه منازلهم، ولكانوا جميعا على منزلة سواء.
قوله تعالى: {وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ.. هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ}.
هو دفع لما قد يقع من مفهوم خاطئ لقوله تعالى: {فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ} حيث أطلق مشيئة الإنسان.. ومشيئة الإنسان ليست مطلقة، بل هى مقيدة بمشيئة اللّه.
ونعم.. الإنسان له مشيئة يجدها في كيانه، وفيما يأخذ أو يدع من أمور، وفيما يقبل أو يرفض من أعمال.. ومع هذا، فإن تلك المشيئة مرتهنة بمشيئة اللّه، مقيدة بها، جارية مع القدر الذي أرادته مشيئة اللّه.. فهى مشيئة مطلقة في داخل الإنسان، مقيدة من خارج بالمشيئة الإلهية العامة الشاملة.
وقوله تعالى: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} أي هو سبحانه أهل لأن تتّقى محارمه، ويخشى عقابه، وهو سبحانه أهل المغفرة، يرجى عنده غفران الذنوب، لمن أناب إليه، وطلب الغفران منه.. وفى هذا إشارة إلى أن مشيئة اللّه العامة المطلقة، عادلة، رحيمة، منزهة عن الجور والتسلط.. إنها مشيئة الخالق في خلقه. فالخلق في ضمان هذه المشيئة، في رحمة اللّه، أيّا كانت مشيئة اللّه فيهم.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ} [251: البقرة]. ويقول سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ} [143: البقرة] وفى الحديث: «للّه أرحم بعباده من الوالدة بولدها».